الناشرٍ: دار الشروق / 2011 / جديد / عدد الصفحات: 119 / رقم الطبعة: 1
حين مات أبي شعرت بغضب كبير تجاهه. بكيت حرقتي وحدي، بينما كانت أمي وأخوتي الصغار يبكون موته. ابتعدت عن الجميع، وقد اشتعلت نار الغضب في قلبي، فأنا أبن الثامنة، لم أجد سبباً واحداً يبرر لأبي أن يموت كما فعل.
تزوج أبي أمي ولم يبلغ السادسة عشرة، وكانت هي تصغره بسنتين. جلس معنا ليلة وفاته على الأرض حول سفرة العشاء، امتدت أيادينا جميعاً لصحن الباقلاء والخبز، وحين نهض هو ضخّم الفانوس بذبالته الصفراء خياله على الحائط .. ما زلت أذكر تلك الليلة ببردها القارص، تمددتُ وأخواتي الثلاث على الأرض قرب الموقد، وصعد أبي إلى سريره العالي، وبقيت أمي كعادتها إلى جانبنا تدفئ ليلنا، تقصّ علينا بعض قصصها التي نحب. لا أدري متى سرق النوم عيوننا، لكنني لن أنسى صرخة أمي الملتاعة، وهي تنادي على أبي:
«فالح، فالح».
لكن أبي لم يجب على ندائها، ظل ممدداً بنومته على سريره العالي، وأبداً لم أرَ خياله المضخّم بعد تلك الليلة على جدران غرفتنا الطينية. ومن ليلتها وأنا أكره النوم الخبيث، أحاذر أن يسرقني كما سرق عمر أبي.
***
لم يمض أسبوع على موت أبي، لننتقل: أمي وأخوتي وأنا للعيش في بيت خالي. ويومها خاطبني قائلاً:
«أنت رجل الأسرة الآن، وعليك أن تتصرف كالأب».
لم أفهم معنى جملته، فنظرتُ إلى أمي، التي ردّت عليه بقولها:
«ناصر ولد طيب، وسيكون عند حسن ظنك».
خصص لنا خالي غرفة صغيرة في بيته لنعيش فيها، ومنذ الصباح الباكر، أيقظتني أمي:
«انهض، ستذهب للعمل في دكان خالك».
صامتاً سار خالي أمامي، وتبعته أسرق النظر لخطواته المتمهلة. وقبل أن نصل إلى دكانه، توقف هو والتفت إليَّ، ناظراً في عينيَّ، هازاً إصبعه:
«ستنفذ ما أطلبه منك دون أي سؤال أو اعتراض».
قطع جملته بما يوحي بأنه سيقول أهم ما فيها. ظلت نظرته الحارقة تأكل وجهي. قال:
«عليك أن تكون أميناً».
خفضت رأسي بالموافقة، بعدها استدار يكمل الطريق إلى الدكان، وبقيت أسير في أثره. حين عدت ظهراً، أخذتني أمي إلى صدرها، لاحت عبرة بكاء على نبرة صوتها:
«أنت رجلي الآن».
بينما كنا حول سفرة الغداء، في غرفتنا الصغيرة، لاحظت أنها لا تأكل معنا. سألتها عن السبب، فقالت:
«أشبع حين أشاهدكم تأكلون أنت وأخواتك».
انتبهت أن الطعام قليل، وأن أمي تسرق لقماتها كي تتركنا نحن أطفالها نأكل، لحظتها بدأت أسرق لقماتي مثلها، فأنا رجل الأسرة، وعليَّ أن أكون مسؤولاً عنها. ومن يومها كرهت الأكل، صرت أسرق لقماتي وأنا أراقب يدي.
[[[
ربما بعد مرور خمسة أشهر، وفي ظهر أحد الأيام، انتهيت من غلق باب الدكان، وكان خالي واقفاً بهدوئه يراقبني، فمدَّ يده نحوي بورقة بالية قائلاً:
«هذا راتبك».
لم أفهم معنى كلمة راتب، ولا السبب الذي جعل خالي يؤخره كل هذه المدة الطويلة، لكنني فهمت أنه راض عني وأنه يجازيني على خدمته وطاعته. سار أمامي وأنا في أثره. راحت أصابعي تتحسس ملمس الورقة البالية في جيبي. وحين دخلت غرفتنا الصغيرة، وقبل أن أجلس أعطيت الورقة البالية لأمي، قائلاً:
«هذا راتبي».
عادت نبرة البكاء لصوتها، همست بدعائها:
«الله يطيل بعمر خالك، والله يخليك لي ولأخوتك».
عملتُ لسنين مساعداً لخالي في دكانه وحساباته، وكان كلما أعطاني راتبي حملته كاملاً إلى أمي، دون أن أخصّ نفسي بشيء منه. في أحدى المرات، ناولته لأمي، فردت إليَّ بعضاً منه قائلة:
«هذا لك».
يومها بدأت أمي تستقطع مبلغاً صغيراً من مرتب كل شهر وتقدمه لي، لكنني تعوّدت أن أصرف مرتبي على أسرتي، اكتفي بسرقة جزءٍ صغيرٍ أمتع نفسي به.
[[[
أذكر تلك الفترة، ظلت أمي تحوم حولي لأيام دون أن تفصح عن مرادها. اصطدتها أكثر من مرة تسرق النظر إلى وجهي وطولي ومشيتي. سألتها:
«ما بك يا أمي؟».
نفت هي أي شيء، لكن عينيها نطقتا بشيء آخر. وبعد مرور أسبوع، وبينما كنا حول الموقد، نَبَسَ صوتها ويدها تمسك بالمنقاش تقلب الحطب، سألتني:
«ألا تريد الزواج؟».
فاجأتني جملتها. بقيت ساكتاً لا أعرف ماذا أقول. فأكملت هي:
«أبن خالك تزوج منذ سنة وهو أصغر منك».
سرقتُ النظر لوجهها، أبعدت نظرتها عني، ظلت تلهو بحطب الموقد، قالت:
«وفرت من راتبك مبلغاً تستطيع الزواج منه».
أسرع إليَّ وجه شريفة ابنة جيراننا، التي كانت تأتي بصحبة أمها لزيارة أمي. تذكرت أنني سرقت بعض النظرات إلى وجهها المشرق، وأنها تبعثرت متوارية خلف ارتباكها. انتشلني صوت أمي:
«شريفة ابنة جيراننا فتاة طيبة».
في ليلة زواجي أوصتني أمي:
«لا تضايق زوجتك، وكن طيباً معها».
ما ضايقت شريفة ولا كنت فظاً معها يوماً، وبالرغم من مرور أكثر من خمسين عاماً على زواجنا، وأن لنا ستة أبناء، إلا أنني لم أزل أغافل شريفة، استمتع بسرقة النظر إلى وجهها المشرق الذي أحب.
[[[
طوال الأسبوع يبقى بيتنا الكبير خالياً إلا مني وشريفة. يوم الجمعة يأتي أبناؤنا وزوجاتهم وعيالهم لزيارتنا، يمضون اليوم معنا. شريفة وأنا ننتظر كل جمعة. أمازح أنا شريفة، أقول لها:
«يوم الجمعة يتحول بيتنا لمدرسة».
يعلو زعل حلو وجهها المشرق، تقول:
«قل ما شاء الله».
أقول: ما شاء الله، معاوداً سرقة نظراتها التي أحب.
تشتط هي منذ الصباح الباكر، تقف مع الطباخة في المطبخ، تجهز أنواعا كثيرة من الطعام، وحين يبدأون بالتوافد، أترك أنا الجميع وألهو باللعب مع الصغار، أوزع عليهم أنواع الحلوى، التي اشتريها طوال الأسبوع بانتظار قدومهم. وحين يحتضن كل منهم نصيبه، استمتع بمناقرتهم، وسرقة بعض الحلوى منهم.
منذ كنت صغيراً يوم مات أبي وهو نائم على سريره العالي، ومنذ بدأت العمل في دكان خالي، اعتدت على سرقة ساعات نومي القليلة. واعتاد جسمي الاكتفاء بأقل القليل منها. استيقظ مفزوعاً في كل ساعة وكأني لا أصدق أنني لم أزل حياً. وحين كبرت صرت أبدأ يومي بصلاة الفجر، ومن ثم قراءة الجريدة .. مراراً سألتني شريفة:
«ما الذي ينتظرك غير الجريدة، لماذا تستيقظ منذ الفجر؟».
أخبرها إنني تعودت الاستيقاظ باكراً، أخفي عنها لعبة الخوف والسرقة بيني وبين الموت. لكنها لا تقتنع.
في الفترة الأخيرة ألحت عليَّ للذهاب إلى الطبيب:
«يجب أن تجد حلاً لنومك القليل».
ابتسمت لها، لكنها ظلت بغضب وجهها المحب وحنقها:
«لابدَّ أن تعرض نفسك على الطبيب».
ولأنني عاهدت أمي أن لا أضايق شريفة، وأن أبقى طيباً معها، فلقد ذهبت بصحبتها إلى طبيب المستوصف،
وكانت فتاة شابة:
«ما الذي تشكو منه يا والدي؟».
بادرتني الطبيبة بالسؤال، فسرقت النظر إلى عينيّ شريفة، فقالت هي:
«هو لا ينام يا دكتورة».
طافت ابتسامة صغيرة على وجه الدكتورة، عادت تسألني:
«هل تشكو من أي مرض؟».
«كلا».
قلت لها، وأكملتُ:
«تعودت الاكتفاء بساعات نوم قليلة».
ألتفتت الدكتورة لشريفة وقالت:
«هذا لا يضر».
«لكنه لا ينام يا دكتورة».
خرجنا من المستوصف، وفي طريق عودتنا إلى البيت، طلبت من شريفة أن نقصد سوق الجمعية لشراء الحلوى لأحفادنا.
[[[
يوم الجمعة الماضي احتفل أبنائي وأحفادي بعيد ميلادي، لكنها المرة الأولى التي نحتفل بها وشريفة غائبة. بقيت طوال المساء وغصة البكاء تقبض على بلعومي. ما لعبت مع أحفادي، ولا تسليت بسرقة الحلوى منهم. وحين ودعني الجميع، بقيت وحدي، فخرت دموعي دون صوت.
أويت إلى الفراش، وكما في كل ليلة، منذ أن توفت شريفة، صرت أغمض عينيَّ باسترخاء دون أن أخاتل الموت، وصرت أتعمد البقاء نائماً أطول مدة ممكنة. لكنني وفي كل صباح استيقظ والكسل يملأ جوانبي، أتناول فطوري وحدي، وأبدأ بقراءة الجريدة، ولا أدري لماذا صادقني النعاس مؤخراً، أخذت رقبتي تسقط على صدري بينما أنا أتصفح الجريدة.
(كولورادو)
(كاتب كويتي)