Adel Hamuda: Tharthara ochera fawq alnil
الناشرٍ: دار الشروق / 2010 / جديد / عدد الصفحات: 175 / رقم الطبعة: 1
الخلاف بين مصر ودول حوض النيل صار قضية الساعة حتي أن كثيراً من الكتب التي صدرت مؤخرا تناولت هذا الموضوع بالرصد والتحليل ليبقي التحدي أمام أي كتاب يتناول الأمر نفسه هو الزاوية الجديدة والمختلفة في التناول.
حينما يقرر الكاتب الصحفي الكبير عادل حمودة الحديث عن الأمر فأنت تتوقع كتابًا دسمًا وممتعًا إلا أن المؤلف هنا يضيف إلي هذا بعداً إنسانياً من خلال تجربة عاشها بالفعل في أسفاره إلي دول منابع حوض النيل «إثيوبيا - أوغندا - السودان» ليكتشف من خلال هذه الزيارات أن أخلاق الشعوب هنا في مصر وهناك في هذه الدول «متشابهة وربما متطابقة، تتسم بالطيبة إلي حد التفريط والخبث الخفي إلي حد التضليل.. هي شعوب تتجنب العنف وتخشي السلطة وتنافقها دون أن تثق فيها أو تؤمن بها.. هي صفات مشتركة بين أمتين تختلفان في كل شيء ولا يجمعهما سوي النهر».
إلا أنه كما يقول عادل حمودة فإن المصالح تتغير والمعاهدات الدولية إذا لم تجد قوة تحميها تفقد صلاحيتها وهو الأمر الذي حدث في دول المنبع والمجري التي تمردت علي ما فات وطالبت بفتح صفحة جديدة ومعاهدة جديدة وأنصبة مياه جديدة وهو الأمر الذي فجر أزمات بين هذه الدول وبين مصر، كانت أكثرها حدة في صيف 2009 لتبدأ بعدها التداعيات الأخطر. ولأن هذه النتائج لها مقدمات فإن الكاتب يأخذنا منذ البداية.. من أول قطرة في النهر.
في مصر هي «ليلة الدمعة» أي دمعة العين التي خرجت من إيزيس حزنا علي زوجها أوزوريس وكانت تلك القطرة الأولي التي تبشر بفيضان النيل أما في إثيوبيا وتحديدا في منطقة «بحر دار» يسمونها «الليلة الحمراء» لأن الأمطار الاستوائية الشرسة التي تسقط هناك تأكل حمرة التربة الجبلية وتحتضنها في رحمها وهي تلقي بنفسها من مرتفعات تصل إلي 6133 قدماً إلي مجري النهر فيما يسمي بالنيل الأزرق، تستقبلها الفتيات وهن عرايا ويتحين الرجال الفرصة للقنص لتصبح أسطورة عروس النيل في مصر حقيقة مجسمة في إثيوبيا.
وهكذا يلقي إليك عادل حمودة علي صفحات الكتاب بمجموعة ضخمة من المعلومات التي تدهشك وتصدمك وتمتعك في الوقت نفسه بدءاً من الحضارة الفرعونية حيث كان الكهنة يبتهلون إلي النيل وكان المصري القديم يحفظ نصا يستعد به لملاقاة قضاة الموت في الآخرة قائلاً: «إنني لم ألوث ماء النيل ولم أحبسه عن الجريان في موسمه ولم أسد قناة» قبل أن يتساءل حمودة بسخرية مريرة «تري لو كنا نحاسب علي ما نفعل في النيل الآن هل كان بيننا من يمكن أن يرد علي جنة؟»
ويؤكد أن مسئولية النيل كانت في عهدة السلطة العليا ليس لتدليله وتقديسه فقط وإنما أيضا لتهذيبه وتنظيفه واستغلاله والتحكم فيه أيضا قبل أن يوضح أن جمال عبد الناصر كان أول من ضبط تمرد النيل وتحكم فيه وأزال رهبته ونزع قدسيته. ولطالما عرف الحاكم المصري أهمية النيل حتي أن جمال عبد الناصر في وقت ما كان جادا حين قرر خوض الحرب ضد السودان-بسبب النيل- رغم إيمانه بأنها العمق الاستراتيجي لمصر ورغم علاقة المصاهرة بين الشعبين.
يسرد الكاتب المعاهدات والاتفاقات التي توضح أحقية مصر حتي يصل إلي بداية الخلاف عندما أعلن الرئيس أنور السادات عداءه لنظام مانجستو هاريا ماريم في أديس أبابا بانحيازه للصومال الغربي وهو الأمر الذي زرع أولي بذور العداء بين البلدين. صحيح أن عبد الناصر كان يكره النظم الملكية إلا أنه استثني هيلاسي وحافظ علي علاقته به لأنه يعرف أنه يمسك بيده محبس المياه التي تعيش عليها مصر. ولقد وصل الأمر بحاكم إثيوبيا منجستو أنه قال «لو جاء السادات فإننا سنغرقه في بحر من الدم لن ينجو منه وسنعيده إلي بلاده جثة هامدة».
يروي عادل حمودة أسرار رحلته إلي إثيوبيا وطقوسها الغريبة ويسرد قصة اكتشاف منابع النيل قبل أن يقفز إلي أزمة سد تكيزي الإثيوبي الذي سيؤثر في حصة مصر من المياه. ثم ينتقل لأحداث رحلته إلي الشلال الأول ليلتقط هناك ثورة تذكارية كاد بسببها أن يلقي حتفه!
يتعرض بعدها الكاتب لما كتبه جمال حمدان في شخصية مصر عن النيل وتوصله إلي نتيجة مهمة أنه ليس هناك تعارض في المصالح المائية بين أجزاء الحوض ودوله لكن هذه النظرية تتحطم مع تعقد العلاقة بين مصر وإثيوبيا والتي ازدادت بعد محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك إلا أن الغريب أن من قام بهذا الأمر كانوا من السودان والعلاقة مع السودان جيدة علي عكس إثيوبيا التي لم يكن لها ضلوع مباشر في الأمر سوي كونها مسرح الأحداث إلا أن العلاقة معها متوترة!
ويفرد حمودة فصلا كاملا لدور إسرائيل في الأمر منذ أيام هرتزل قبل أن ينتقل إلي اللعنة التي أصابت كل مصري يقترب من منبع النيل بدءا من الكاتب نفسه وحتي الدكتور محمود أبوزيد ـ وزير الري السابق. ويختتم الكتاب بالسودان مستعرضا طقوسها وحضارتها ومجري النيل من الخرطوم إلي أسوان حيث يمر بـ31 شلالا حتي يصل إلي حدودنا. ويوضح الأسباب التي جعلت عبد الناصر يهدد بالحرب ضد السودان لأن رئيس وزراء السودان إبراهيم عبود قال إنه سيقف بكل قوة ضد بناء السد العالي لسبب بسيط وهو أن الماء بالنسبة للمصريين مثل الدم يمكن الموت في سبيله.. كلاهما سر الحياة لا يجوز التفريط فيه، وهو أمر يؤكده الكتاب الشائق فائق الإفادة والمتعة والأهمية.
عن موقع الدستور