Fawzi Habashi: Motaqal kol elosur
الناشرٍ: دار ميريت /2005 / عدد الصفحات: 356 / جديد /رقم الطبعة: 1
عندما فرغت من قراءة كتاب (معتقل كل العصور) لفوزي حبشي، تمنيت أن أمتلك منه كمية لا محدودة من النسخ، أوزعها على كل قارئ، غير متشنج مسبقاً، ويفكر باحثاً عن شكل ما من أشكال العدالة الاجتماعية. فهو كتاب يصفع ليوقظ، فيعيد للمناضلين الذين آمنوا، ولأولئك الذين سيؤمنون بهذه العدالة الاجتماعية، ثقتهم بأنفسهم، وبعدالة عدالتهم الاجتماعية.
الكتاب كتاب مذكرات لرجل بلغ الثمانين، وزار، زيارة إقامة وتعذيب، معتقلات الهاكستب وجبل الطور والقلعة والقناطر وسجن مصر والعزب بالفيوم والواحات الخارجة وأبي زعبل وطرة، في عهود الملك فاروق والرؤساء جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك. وبدأت عمليات اعتقال المؤلف المتلاحقة بعد تخرجه مهندساً معمارياً. فكان أول توقيف له دام ثلاثة أيام في صيف 1947، إذ قبض عليه وهو يوزع منشورات. واعتقل بعد ذلك في 14 أيار 1948، وبقي في سجن هاكستب حتى 21 شباط 1950. ثم تتالت الاعتقالات، حتى كان آخرها في 30 آذار 1981، وأفرج عنه تحت المحاكمة بعد ثمانية أشهر (في أواخر تشرين الثاني من العام نفسه).
قدم للكتاب د. عاصم الدسوقي، واختتمته شهادات لكل من د. محمود أمين العالم، د. عبد العظيم أنيس، د. فخري لبيب، صنع الله إبراهيم، أحمد نبيل الهلالي.
يقول د. محمود أمين العالم في ختام شهادته المعنونة (فوزي حبشي، مهندساً معمارياً لإنسانية الإنسان): (إن السيرة النضالية والإنسانية لفوزي حبشي تعد نموذجاً إنسانياً مشرفاً للمواطن والمناضل المصري في معركة الحرية والديمقراطية والعدالة والتقدم، وبناء وطن اشتراكي في عالم إنساني جديد ومتجدد دائماً).
يسجل الكتاب تاريخ مصر السياسي خلال ما يزيد على 35 عاماً (1947 ـ 1981)، ويركز على هذا التاريخ من داخل تسعة معتقلات منتشرة في مختلف أنحاء البلاد، بكل ما فيه من قسوة وهمجية، وصمود ومقاومة ونضال، ومواقف وعلاقات إنسانية .
يدفعك الكتاب إلى التساؤل عن أولئك (البشر) من رجال المباحث الذين يعتقلون، ويعذبون حتى الموت. لا يعذبون مجرماً خطيراً، بل مفكراً مثقفاً مناضلاً في سبيل سعادة الآخرين: هل هم فعلاً بشر؟
ويحكي لنا الكتاب قصة اعتقال محمد عثمان، أحد مؤسسي تنظيم طليعة الشيوعيين مع الدكتور فخري لبيب ومنصور زكي وآخرين.
فقد ظل هارباً خلال حملة مطلع العام 1959، التي شملت أيضاً شيوعيي الإقليم الشمالي (سورية)، وأمسكوا به في طنطا. وهناك تولى البكباشي أنور رئيس المباحث العامة تعذيبه تعذيباً وحشياً لكي ينتزع منه اعترافاً بمواقع التنظيم الأخرى، ولكنه لم ينطق بحرف. فتضاعف عليه الضرب بالعصي وكعوب البنادق إلى أن فقد النطق في الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي، فوضعوه في سيارة أقلته إلى مبنى المباحث في القاهرة، حيث لفظ أنفاسه، ونقلت جثته إلى مكان ظل مجهولاً حتى الآن.
كما يحكي لنا قصة تعذيبه في معقتل العزب بالفيوم. فبعد أن اعترف أحد المعتقلين عنه أن المسؤول السياحي عن خلية في الهجع الذي يقيم فيه، استدعي يوم 9 أيلول 1959، وأوقفه الحراس في الباحة الخلفية للمعتقل. جرّدوه كلياً من ملابسه، واستعملوا الكرابيج والعصي والشوم وجريد النخيل في ضربه، حتى غطت الدماء جسده ووجهه، وهم يسألونه: (من هو المسؤول الحزبي؟ تكلم!). فشعر بأن ضربات قلبه تتلاشى. نزع خاتم الزواج من إصبعه وأعطاه لأحد الضباط، وقال له: أعطه لزوجتي وأولادي، بعد أن تيقّن أنه ميت لا محالة. وجاؤوا بكيس ملح، أذابوه في سطل من الماء، وبللوا ملابسه الداخلية فيه، وعصروا الماء المملح على جروحه النازفة، ثم ألقوه في زنزان انفرادية. وبعد أيام نقلوه مع عدد من المعتقلين إلى معتقل الواحات الخارجة، وكان منهكاً وجروحه لم تلتئم. ورفض مدير المعتقل قبوله لئلا يتحمل مسؤولية موته، فألزمه رؤساؤه في القاهرة بإدخاله المعتقل بعد وصف حالته في دفتر الأحوال.
حكايات الاعتقال والتعذيب والصمود داخل المعتقلات ثم الإفراج، ثم الاعتقال مجدداً، حكايات تطول. ولكن أطرف ما في حياة فوزي حبشي المعماري في المعتقلات هو ممارسة مهنة الهندسة المعمارية والبناء، ففي معتقل الواحات الخارجة التي تقع في عمق الصحراء الغربية، فكر فوزي حبشي ببناء مسرح بدلاً من تقديم المسرحيات في الممر الضيق بين المهاجع.
بعد استشهاد شهدي عطية الشافعي على أبواب سجن أبي زعبل في 12 حزيران 1960، انتشر الخبر، وعلم به الرئيس جمال عبد الناصر عندما كان يحضر جلسة مجلس النواب اليوغسلافي مع الرئيس تيتو. فقد فوجئ بأعضاء المجلس يقفون دقيقة صمت حداداً على روح شهدي عطية. فأمر بإجراء تحقيق في الجريمة، ووقف التعذيب في السجون. وصدرت تعليمات بتحسين معاملة المعتقلين، والسماح بتلقي رسائل الأهل. وتحول المعتقل إلى مجرد منفى، وتراخت قبضة المباحث، واقع هامش الحريات النسبية في المعتقل، وظهرت تجربة الواحات الثقافية، وأصبح (بؤرة للثقافة والتعليم والمعمار والفن والخضرة، كانت برهاناً على قدرة الإنسان على التقدم ليغرس زهرة في قلب الجحيم!).
عرض فوزي حبشي فكرة بناء مسرح في باحة السجن الواسعة، فوجدت منهم حماسة غريبة، كأنهم متلهفون للمشاركة في عملية بناء تعيد إليهم شعورهم بأن لوجودهم معنى. وعرضت الفكرة ورسوم التخطيط الأوّلي على إدارة السجن، فوافقت.
يقول فوزي حبشي: يحتاج المسرح إلى بناء حيطان ساندة بين كل مصطبة وأخرى. وبحسبة أولية وجدت أننا نحتاج إلى مئات الآلاف من الطوب، والحل الوحيد هو تصنيع الطوب، أي ضربه من المواد المتوفرة في الأرض تحت طبقة الرمال الصفراء). وأقيمت (المعجنة) والمفرش والقوالب الخشبية. وأجج التنافس (مجلة الحائط) التي بادر إليها الفنان حسن فؤاد، وأسماها (مجلة المسرح)، وساعده فيها عدلي برسوم وفكري رفاعي. وأطلقت المجلة شعاراً جميلاً: (فلننته من بناء المسرح قبل 27 آذار 1963 ، يوم المسرح العالمي).
كان المعتقلون يضربون آلاف قطع الطوب يومياً. واستيقظوا ذات صباح ليجدوا أن المفرش الذي قاموا برصّ عشرات الآلاف من الطوب عليه خال من أية طوبة. واتضح أن نجاحهم أغرى مأمور السجن، فأمر بعض عساكره بسرقة الطوب ليستكمل به بناء فيلته الخاصة. فاتجه فوزي حبشي إلى مكتب المأمور حانقاً، وعنّفه. يقول: (وتضاءل الرجل أمامي خجلاً، وأخذ يعتذر وقد أحسّ بدناءة سلوكه، وعرض عليّ أن يساعدنا بالسماح لنا باستخدام عربة السجن الحكومية لنقل الطوب من المفرش إلى موقع البناء بدلاً من نقله حملاً على الأكتاف كما كنا نفعل).
استغرق العمل نحو أربعة شهور، انتهى خلالها المعتقلون من بناء المسرح. ثم طلُوه بالجير. و(بدأت العروض التي كانت بهجة للمعتقلين والضباط وأسرهم، والجنود. ولم يكن يعتذر عن الحضور سوى الإخوان المسلمين. وقدمنا مسرحيات لشكسبير، منها مسرحية (ماكبث)، وأخرى لجان بول سارتر، و(حلاّق بغداد) لألفريد فرج، و(عيلة الدوغري) لنعمان عاشور، وغيرها). وحضر محافظ الواحات الخارجة مسرحية (عيلة الدوغري) من إخراج الفنان حسن فؤاد.
تجدر الإشارة إلى أن مذكرات فوزي حبشي تؤكد أن الشاعر مجدي نجيب كتب في الواحات قصيدته التي غنّتها فيما بعد المطربة شادية، ومطلعها (قولوا لعين الشمس ما تحماشي). وفي الواحات أيضاً بدأت تصدر بانتظام مجلة ثقافية سياسية باسم (الثقافة الجديدة)، وكان يكتب فيها د. عبد العظيم أنيس، وفيليب جلاب رئيس تحرير (الأهالي) فيما بعد، وألفريد فرج، وأديب ديميتري، ود. فؤاد مرسي، وإبراهيم فتحي.. وغيرهم.
كانت تصدر في نسخة واحدة يتناقلها المعتقلون.
في الختام، وبعد الفراغ من قراءة مذكرات فوزي حبشي أجد نفسي مضطراً للتساؤل عن الخسائر التي سببتها أنظمة القمع والتعذيب والقتل لأوطانها عندما اعتقلت كبار المفكرين المثقفين، وكل المناضلين في سبيل الحرية والعدالة الاجتماعية.
البشرية النقية، والتاريخ يؤكدان أن الفكر، وبخاصة فكر العدالة الاجتماعية، باق، وأما الجلادون، من أصحاب القرار وحتى السجانين، فمصيرهم، في ذاكرة الوطن، أنهم جلادون لا أكثر.
د. أحمد الغفري www.an-nour.com